سيف الله المسلول

12


إذا ذكر التاريخ العسكري بطولات الإسكندر الأكبر وهانيبال ونابليون بونابرت فى النبوغ العسكري جاء إسمه فى السطر الأول من صفحة الإعجاز العسكري الذى يتحدى الطبائع البشريه فكان رأس الحربه التى قضت على فتنة المردتين في الجزيره العربيه وكان أول من قاد الجيوش لفتح بلاد جديده فأنزل الهزيمه بالإمبراطوريه الفارسيه وشرد جيوشها جيشاً تلو الآخر في معارك عظيمه لم يهزم في أى منها قط ففتح العراق وبلاد الشام . 

 هو خالد بن الوليد بن المغيره المكنى بأبي سليمان يلتقي نسبه مع الرسول في مرة بن كعب الجد السادس للرسول ، لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم  بسيف الله المسلول، فكان قائد أحد الجيوش القلائل فى التاريخ الذين لم يهزموا فى معركة واحدة طوال حياتهم ليس ذلك فحسب ففى جميع المعارك التى خاضها كان يواجه  قوات متفوقة عنه عددياً من أقوى الإمبراطوريات على الأرض في حينه الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطوريه الفارسية،  ينسب إليه العديد من التكتيكات الناجحه التى إستخدمها المسلمون في فتوحاتهم الكبرى، كما إعتمد أيضا على تكتيك الحرب النفسيه فكان يستهدف قادة جيش العدو مباشره عن طريق الهجوم الجبهي أو عن طريق الدعوة للمبارزة قبل بدأ المعركه، فكان يعتمد على إبادة قوة أعدائه  بدلاً من تحقيق إنتصارات عاديه. 

صفته، كان طويلاً بائن الطول عظيم الجسم والهامه، كث اللحيه، شديد الشبه بسيدنا عمر بن الخطاب فكانت أم سيدنا عمر قريبة خالد بن الوليد حتى أن ضعاف النظر كانوا يخلطون بينهما.

برز إسمه بعدما حول نصر المسلمين في أحد إلى هزيمه فأوكلت له قريش بعدها قيادة أكبر الكتائب عدداً وهو في سن صغير وإسلامه كان بعد صلح الحديبيه

كانت أولى مواقفه الإسلاميه هي أول موقعه يقف فيها الإسلام أمام أعظم دولة في التاريخ دولة الرومان وجهاً لوجه وعرفت تلك الموقعه بغزوة مؤته وملخص القول فيها أن النبي بعث رسولاً إلى ملك بصرى الغساسنى يدعوه للإسلام وكان ملك بصرى عاملاً لقيصر الروم، فعدا ملك بصرى على رسول رسول الله وقتله فساء ذلك النبي وندب الناس للجهاد ولتأديب قبيلة غسان فاجتمع للنبي ثلاثة آلاف وسمى النبي ثلاثة من الصحابه لتسلم القياده " أمير الناس زيد بن حارثه فإن قتل فجعفر بن طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحه " وعندما وصل جيش المسلمين إلى معان بأرض الشام بلغهم أن هرقل نزل في البلقاء في مائة ألف من الروم، وصل المسلمون البلقاء وانحازوا لقرية تسمى مؤته ليتفكروا في أمرهم هل يطلبوا العون من رسول الله أم يكملوا مسيرهم وفي النهاية قرروا القتال وبدأت المعركة وقتل القادة الثلاثة الذين سماهم رسول الله وأظهروا شجاعه أكثر مما أظهروه من فن القتال والدرايه بالمعركة.

إصطلح المسلمون في أرض المعركة على خالد بن الوليد فازدات المعركه عنفاً وكسر في يده يومها تسعة سيوف وانتهت الجوله الأولى من المعركة لكن في المساء انسحب خالد بجيشه ورجع سالماً إلى المدينة، فكانت غزوة مؤته أولى خرجَاتهِ في الإسلام خرج فيها جندياً ورجع قائداً قد أمره المسلمون عليهم  كان هذا بعد ثلاثة أشهر من إسلامه .

في العام التالي قاد النبي جيشاً قاصداً فتح مكه فأمّره النبي على جميع القبائل عدا المهاجرين والأنصار، فوضع النبي بذلك أعظم مبدأ في تقدير الفضائل الإنسانية في الأشخاص .

وظل وهو في حياة النبي في مكان الصداره من جنود الإسلام فلم يتزحزح عن قيادة الجيوش، ثم قام بأمر المسلمين الخليفة أبو بكر الصديق فكان ذراعه الأيمن وقائده الأول فى حرب الرده وفتحَ العراق والشام . فكان له الفضل الأكبر فى تعضيد الدولة الإسلاميه فى أكثر لحظاتها خطوره إذ إرتدت الجزيره العربيه عن الإسلام بعد وفاة النبي ماعدا أهل مكه والمدينه والمسلمون الأوائل فخاض حروب الرده حتى عادت الجزيره العربيه للدين الإسلامي وقام بالقضاء على أهل الفتنه ومُدّعوا النبوه ولم يكد يسقط آخر حصن من حصون الرده في اليمامه  بأيدي المسلمين حتى كتب له أبو بكر أن سر نحو العراق، فأرسل خالد كتابه إلى هرمز الحاكم الفارسى على ولاية داست ميزان يبلغه فيها بالدخول في الإسلام أو دفع الجزيه أو القتال، إستعد هرمز للقتال وأخبر إمبراطور الفرس أردشير بغزو خالد الوشيك للعراق ودارت معركة ذات السلاسل وقتل خالد بن الوليد هرمز في مبارزه وإنتهت المعركه بهزيمة الفرس هزيمة ساحقه.

معركة تلو الأخرى وإنتصار تلو الآخر تكللت حملة خالد بن الوليد فى العراق بالنجاح ثم مالبث أن وصلته رسالة من الخليفه بالذهاب إلى الشام بعدما أخفقت أول حمله عسكريه تجاه الشام بقيادة خالد بن سعيد  بن العاص، وصل خالد لأرض والشام ومعركه تلو الأخرى وانتصار تلو الآخر حتى توغل فى بلاد الشام وتم له فتح دمشق .

في العام الثالث عشر من الهجره توفي أبو بكر وأصبح عمر خليفة للمسلمين فكان أول قرار إتخذه هو عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيوش وتنصيب أبو عبيده بن الجراح .

وهنا وقفه ونظره على شخصية كلاً من سيدنا خالد بن الوليد والخليفه عمر بن الخطاب وقائد الجيوش الجديد أبو عبيده .

أبو بكر وعمر 

لم يُحدث أى قرار لسيدنا عمر أي جدل مثل قراره بعزل خالد بن الوليد وهو فى أوج إنتصاراته، الكثير من الرواة والمستشرقين قد خاضوا في سبب عزل خالد بن الوليد والكثير منهم قد شطط بهم  الحديث في تعليل أسباب عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيوش 

مثل الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، لن أتطرق لكل الروايات والقصص التى تناولت هذا الموضوع، وكلها غير صحيح بأن عمر عزل خالد لحزازة بينهم في الجاهليه وأن خالد قد صارع عمر فصرعه...إلى آخر الكلام . 

في أول قرار لسيدنا عمر بعد توليه الخلافه بعث إلى أبو عبيده كتاب يخبره فيه بتوليه قيادة الجند وتنحية خالد بن الوليد وهنا يجب أن نلقي نظره على شخصية خالد لنفهم أسباب العزل كان سيدنا خالد مستقلاً في تصريف أموره و  قيادته للجيش وذلك وفق توجيهات الخليفه ولا يرجع فى كل صغيره وكبيره للخليفه فكان يتصرف فى الغنائم دون أن يكتب للخليفه بحسابها وكان كريماً في بذلهِ وعطاءهِ وكان هذا مما ينكره سيدنا عمر على خالد فكان رد سيدنا أبو بكر دائما أنه لن يُغمد سيف إستله رسول الله لمحاربة المشركين فكان أبو بكر لايتدخل فى تفاصيل أعمال الولاه أو القاده طالما أنهم يعملون في إطار العدل لكن كانت شخصية سيدنا عمرلها رأى آخر إذ أنه بعد توليه الخلافة كان يرى أنه مسئول عن الرعية ومسئول عن الولاة فيجب على كل والي أن يرجع له في أى قرار يتخذه، حتى أنه كان يجلس فى المدينه وكان يسمي قادة الأجنحه فى الجيوش أثناء الفتوحات وقادة الأجنحه يخضعون مباشرة لقائد الجيش والوقت قد لايسعف دائماً إنتظار تعليمات الخليفه فكان عمر مركزياً فى إدارته بعكس سيدنا أبو بكر .

فهنا تبرز الخصائص المتباينه لشخصية الخليفتين أبو بكر والخليفه أبو عمر بن الخطاب فكان أبو بكر لايكسر للولاة سلطانهم في مال أو غيره طالما أنهم يقومون بالعدل فكان يترك لهم حرية التصرف كامله طالما فى حدود النظام العام للدولة أما سيدنا عمر كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد للولاه والأمراء الطريقة التى يسيرون ويحكمون بها ويجب عليهم أن يردوا إليه مايحدث حتى يكون هو الذي ينظر فى أمرهم ثم يأمرهم فكان يرى أنه مسئول عن كل شيء والحديث عن بغلة العراق مشهور.

وروى بن حجر عن أنس بن مالك أن عمر لما ولي الخلافه كتب لخالد ألا تعطي شاةً ولا بعيراً إلا بأمري فرد عليه خالد إما أن تدعنى وعملى وإلا فشأنك بعملك،  فكان لابد لعمر من ولاة ينسجمون معه في مذهبه في العمل .

فكان التوافق بين طباع أبو بكر اللينه وبين طباع خالد بن الوليد المستقله فى تدبير أمرها، وكان الخلاف بين عمر وخالد لمركزية عمر في الإداره وجنوح خالد للإستقلال فى تصريف أموره فيما يتعلق بكونه قائد الجيش.

وقد كان أبو بكر يرى فى خالد بن الوليد عدلاً لعمر بن الخطاب فيقول " وددت أنى كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله "  

 عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد

كان هناك تشابه كبيرفى الطباع بين الرجلين لكن كان هناك اختلاف كبير فى السلوك فكان عمر بن الخطاب يمنع نفسه الطعام الشهي وهو ليس فيه شبهة حرمه  مخافة أن يقال له يوم القيامه " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها  "

والقصه مشهوره عن أنه في بيت المال إذا كان يعمل على أمر خاص به ولايخص المسلمين عامه كان يطفيء سراج بيت مال المسلمين ويشعل سراجه الخاص، فكان يغلب عليه الحرص والتدقيق في الأمور أما خالد بن الوليد نشأ في  بيت من أغنى البيوت في قريش فكان أبوه الوليد بن المغيره يكسي الكعبه سنة وتكسوها قريش سنه وكان عمه الفاكه بن المغيره من أكرم العرب في زمانه هذا هو البيت الذي نشأ فيه خالد وكان من أمر حروبه أنه  كان لايبالي بالزواج فى ميدان القتال فكان أن أعرس ببنت مجاعه بن مراره الحنفي وجراحه لاتزال تنزف دماً من سيوف قومها فكان هذا مما أخذه عليه عمر الزواج المعجل في غير حينه فتزوج أيضا فى معركة اليمامه وفى دومة الجندل . فطباع الرجلين مختلفه وكان سيدنا عمر يهتم لسلوك الولاة أو القاده حتى في الأمور التى لاتخالف الشرع صراحةً .



يقول صادق إبراهيم عرجون فى كتابه خالد بن الوليد

" كان بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد تشابه كبير في الطبائع الأصليه الثابته، وكان بينهما إختلاف شديد في الطبائع المكتسبه فتجمعهما الصلابه والأيد في الطبع المركوز، ويفرق بينهما السلوك في الحياة ، وصلابة الطبع عند عمر تجلت في عدة مواقف منها فى إجهاره بالدعوه وطريقة إعلان إسلامه أمام الملأ من قريش وفي الطريقة التى هاجر بها من مكة إلى المدينه، وتجلت صلابة طبعه في موقفه من أمهات المؤمنين وكن حول الرسول يطلبن إليه ويكثرن عليه في النفقة وفى زينة الحياة الدنيا 

أما صلابة الطبع وقوة الأيد عند خالد فقد كانت حياته كلها مثالاً على ذلك فهو رجل نهد على الحرب لم يفارقها فى جاهلية ولا فى إسلام ألفت نفسه القتل والقتال فى الهجوم والدفاع وألفت نفسه الداماء تسيل والرؤوس عن الأعناق تميل والحوادث في ذلك كثيره .

وقد فرقت الحياة بين عمر وخالد في السلوك والأعمال فكان خالد ينفر من القيود ويميل إلى الحريه ولم يتعود ان يؤمر فيطيع ولكنه تعود أن يأمر فيطاع لا يلتبث للعقبات يحاول التفادي منها لكن يواجهها مواجهة المحارب حتى يهزمها، تزدهيه الشدائد وتطربه"

" بعد فراغه من قبيلة أسد وغطفان في حروب الرده عزم على الذهاب إلى مالك بن نويره من قبيلة تميم وكان مالك قد إرتد مع من إرتد فتوقف الأنصار عن متابعة خالد يقولون ماعهد إلينا الخليفه بهذا بل عهد إلينا أن إذا فرغنا من القوم أن نتوقف حتى يكتب إلينا  فيجيبهم جواباً ينتزعه من طبعه الأصيل فى تقديس الإستقلال في الرأى وحرية التصرف فيقول " إن كان عهد إليكم هذا فقد عهد علي أن أمضي وأنا الأمير إلى أن تنتهي الأخبار "

ومن هنا كان الإختلاف بين عمر بن الخطاب وخالد لأن طبيعة خالد ظلت على صلابتها وإستقلالها فى حرية التصرف فيما أُسند إليها وعمر لايرضى ذلك إستجابة لسلوكه في الحياه ، فطبيعة الرجلين كان من الصعب أن تستجيب إحداهما للأخرى 

وطبيعة الخلاف بينهما بدأت في عهد أبو بكر فكان خالد إذا أصاب مالاً قسمه في أهل الغنائم ولم يرفع إلى أبو بكر حساباً كان عمر ينكر ذلك فلما أصبح عمر الخليفه كتب إلى خالد ألا يتصرف فى شيء من المال قل أو كثر إلا بإذنه فرد عليه خالد أمره وجعل حريته مقابل منصبه وكتب له بمثل ماكتب لأبو بكر بأن يدعه مطلق الرأى حر التصرف في دائرة عمله وإلا فشأنه وعمله يولي عليه من يشاء

ومن طبيعة خالد الثقه بنفسه والثقه بغيره إذ أنه مع قدوم أول موسم حج بعد بداية حروب الرده ذهب وقام بالفريضه دون أن علم الخليفه ودون أن يعلم أحد من المسلمين ذلك إلا خاصتهم وهذا إنما ينم عن ثقته بنفسه وغيره فلم يخشى العدو ولا وعورة الطريق  فخرج من معسكره فى العراق إلى الحجاز دون أن يعلم أحد إلا خاصته من المقربين . 

عمر بن الخطاب  وأبو عبيده

كان هناك إختلاف كبير بين طباع كل منهما لكن كان هناك تشابه كبير في السلوك، كان أبو عبيده ليناً ورحيماً  فى سلوكه كان رجل سلم مالم تنتهك حرمات الله لا يبالى بالدنيا وسلطانها فكان ذلك من أسباب إنسجامه مع عمر وحبه عمر له، حتى أن كتاب سيدنا عمر لأبو عبيده جاء فى وقت كان الحصار مضروباً فيه على دمشق فظل أبو عبيده خافياً للكتاب مدة عشرين يوماً لم يُعلم خالد بن الوليد بأنه نُحي حتى لامَهُ فى ذلك خالد، فقال له أبو عبيده أنه لم يُرد أنه يخبره بنفسه وفضل أن يعلم من غيره فكان أبو عبيده لايبحث عن الرئاسه أو القياده حتى أنها أُوكلت إليه ولم يُحب أن يكون هو الذي يخبر الخبر لسيدنا خالد حتى أنه عمل فى التخفيف عن سيدنا خالد في عزله الأول بأنه كان يستشيره في جميع أمره وإعظامه لأمره 

وإستمر خالد تحت قيادة أبو عبيده مدة أربعة سنوات إلى أن أقاله عمر من الجيش نهائياً بسبب مارآه عمر من تبذير خالد للمال فقد أعطى أحد الشعراء الذين مدحوه مبلغ كبيراً المال فقال عمر لما سأله طلحه لما عزلت خالد قال ماعتبت عليه إلا المال فوضع بذلك عمر إطاراً عاماً لمن تسول له نفسه مخالفة سياسته العامه .

فالصحابه الكرام لم يكونوا سوى بشر تسري عليهم طبائع البشر بإختلافها وكذلك الأنبياء وأشار القرآن فى مواضع مختلفه إلى بعض طبائع الشخصيات المختلفه وكيفية التعامل معها فكان قول الله تعالى لسيدنا موسى وأخاه هارون  " إذهب إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى " فكانت الرساله أن يحسنا القول لفرعون وأن يتجنبا شره بالقول اللين إذ أنه كان سيكوباثاً مجرما 

" وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم " وله جانب نرجسي أيضاً من الشخصية

" فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى " .

والامثلة في ذلك كثيره وللحديث بقيه  



التعليقات